من سويسرا إلى تونس: حكاية امرأة صنعت الجنة على الأرض

سيدة الفن والجمال
إيفيلين بوريه
Mrs. Evelyn Bouret
كتب: محمد أشرف
“من يشرب من نيل مصر يعود لها”، هكذا تقول الحكمة التي يرددها المصريون مرارا؛ دلالة على ارتباط العالم بأرض مصر وحضارتها، لكن إيفلين بوريه كانت التجسيد الحي على صدق هذه المقولة، إلا أنها لم تغادر مصر من الأساس لكي تعود إليها؛ فهي منذ وطأت قدمها أرض الفيوم -قبل 45 عام- قررت ألا تفارقها، وبقيت في قرية تونس حتى وافتها المنية وصعدت روحها إلى بارئها في أول أيام يونيو/حزيران.
الاسم يبدو غامضا للكثيرين، لا يعرفون ماهية السيدة الأجنبية التي ودت لو كانت مصرية، فكان لها ما أرادت.
هي امرأة سويسرية تزوجت من الشاعر المصري سيد حجاب الذي عرف بمصريته الشديدة في كلمات أغانيه ودواوينه. جاءت إلى مصر في زيارتها الأولى مع والدها القس السويسري، وكانت من بين المعالم السياحية التي زارتها مدينة الفيوم التي انبهرت بها وبالخضرة والمناظر الطبيعية في المدينة القديمة.
وكان من المتوقع أن تعود إيفلين إلى سويسرا بعد انتهاء إجازتها السياحية، لكنها استمرت وتزوجت حجاب، واشترت قطعة أرض في قرية تونس، ثم بنت عليها بيتا، ليصبح منارة لأهل القرية الذين علمتهم السيدة الأجنبية ما لم يكونوا يعلمون.
تعد بوريه إحدى أولى النساء الرائدات في المشاريع الخاصة في صعيد مصر، فقد استطاعت الحفاظ على استمرارية القرية بدعم تلاميذها في تأسيس مدارسهم وورشهم الخاصة، حتى أصبحت القرية اليوم مركزا للفن والخزف في مصر، وصفها إبراهيم عبلة، نجل الفنان التشكيلي محمد عبلة ومدير مركز الفيوم للفنون، بمن بدأ مسيرة القرية الفنية، وأثنى على “عطائها المستمر” للمكان وإيمانها بإمكانية تغييره عن طريق الفن.
درست بوريه الفنون التطبيقية في سويسرا قبل هجرتها إلى مصر عام 1965، لتستقر في قرية تونس بمحافظة الفيوم، بعد أن رشحها لها بعض الأصدقاء مشيدين بجمال القرية، وتقول في لقاء تلفزيوني مع بي بي سي عام 2016، بلغة عربية ولكنة مصرية سليمة، كانت تجيدها بعد سنين من الاستقرار في مصر، إنها لطالما أحبت الأجواء الريفية حتى في بلدها الأم، كما تحكي عن انبهارها بالفنون الريفية في مصر، وأضافت في ذلك اللقاء: “أحب أن أعمل في مكان توجد فيه مناظر جميلة أمامي بإمكاني رسمها، مثل النخل هنا والحيوانات هناك. كما أن هناك أيضًا مناظر حلوة في الصحراء هنا”.
وجدت بوريه في قرية تونس بمحافظة الفيوم المقر المناسب لتأسيس أسرة، حيث كانت حريصة على نشأة أولادها في بيئة ريفية طبيعية، بعيدًا عن الحدود التي يفرضها الحضر على سكانه، ورغم عقود عاشتها بوريه في مصر حتى وفاتها ودفنها، لم يتسن لها الحصول على الجنسية المصرية حتى بعد محاولات استمرت عشرات الأعوام، ولكن منحتها الحكومة المصرية منذ أعوام تصريح إقامة لفترة طويلة.
عاشت إيفلين في القرية مثلما يعيش أهلها، لم تأنف من “لمبة الجاز”، ولم تتذمر على المياه التي تأتيها من “الطلمبة”، وبعد 10 سنوات من حياتها بقرية تونس؛ نظمت أول معرض لمنتجاتها من الخزف، والذي كان تشكيله هوايتها الأثيرة، وكان المعرض سببا في أن تجد قرية تونس بالفيوم موقعا على خريطة الإهتمام من المسؤولين المصريين، فعرف أهلها معنى أن يوجد في كل منزل صنبور للمياه، ولمبة كهرباء.
الطين معشوق أطفال “تونس” ومرحهم الوحيد، في ظل نقص الإمكانيات، فقط أرض طينية ووحل يمرحون به ويشكلون أشكالا مختلفة يلهون بها؛ كان هذا هو نقطة البداية التي انطلقت منها مدرسة إيفلين التي وصفها أهل قرية تونس بأنها “المرأة التي وراء كل شيء”، بعد أن بدأت تعلمهم تشكيل الطين وتكوين الفخار، وأصبح كل بيت في تونس له مصدر دخل من معرض القرية السنوي الذي اشتهر عالميا، وأصبح مزارا سياحيا يقصده الفنانون والمبدعون من كافة أنحاء العالم كل عام، بسبب إيفلين تغيرت أحوال تونس وأهلها، فصارت القرية تنافس عالميا على مستويات الجذب السياحي، والحفاظ على البيئة، والتنمية المجتمعية.
رغم طلاق إيفلين من زوجها سيد حجاب، إلا أنها استمرت في العيش بتونس في الفيوم، حتى حصلت على الجنسية المصرية بعد “ثورة يناير”، وأنهى وزير الداخلية مجدي عبد الغفار إجراءات تجنيسها بنفسه.
عادت إيفلين إلى مسقط رأسها بسويسرا بعد انفصالها عن سيد حجاب، وتزوجت من مصمم الأزياء السويسري ميشيل بوريه، وأقنعته بالإقامة في مصر وتحديدًا في قرية تونس، وانخرط معها في تعليم الأطفال فن صناعة الخزف، كما أن السيدة إيفلين لديها ابن اسمه أنجلو وهو من يدير مدرسة الخزف والفخار بقرية تونس الآن، وابنة اسمها ماريا، وهما لا يبرحان قرية تونس إلا في فترات قليلة.
صارت إيفلين علما من أعلام الفيوم، تأتيها وكالات الأنباء والصحف العالمية لإجراء حوارات معها، وتُقدّم لهم فناني القرية كبديل عنها، قائلة إن إجراء الحوارات الصحفية مجهود شاق، ووقت طويل، الأفضل أن أقضي ذلك في العمل، وأن يعرف العالم أصحاب الفن الحقيقيين.
تخرج في مدرسة إيفلين بوريه مئات من فناني صناعة الخزف والنقش عليه، ومنهم من افتتح لنفسه مدرسة بالقرية لتعليم الأطفال هذا الفن حتى أصبح بالقرية عشرات الورش والمدارس.
نعى أهالي قرية “تونس” السيدةَ السويسرية التي صارت مصرية أكثر منهم، والتي أوصت أن تدفن بمصر، فقرر أهل القرية دفنها وسط مدافنهم في “الأرية الثانية”؛ حيث تنتهي مسيرة “المرأة التي وراء كل شيء”.
المصدر : الجزيرة
https://aja.me/cv3p7a
https://www.vetogate.com/4825660
https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-57348245
شاهد أيضا: “كامب تونس” تجربة متكاملة تجمع بين المغامرة و الأنشطة البيئية